مدونة أبو فراس عبد العظيم بن عبدالله هوساوي

الشذرات العنبرية من الرحلة النيجيرية

حططنا الرحال أنا وصديقي سليمان في زيارة قصيرة إلى بلاد الأجداد والخلّان (نيجيريا) حيث الطبيعة الاجتماعية وبساطة أهل هذه البلاد ، وأنا أطأ أُولى خطواتي في نيجيريا أحسست أني ظلمت نفسي بالتأخّرِ عن زيارة هذه البقاع ، وأنا في الطائرة غمرني ثمّة شوق لم أجد له تفسير وبيان ، أطوار الشيخ حائطة حافظة ، وكأني أرى والدتي وهي ترتل أورادها حفاظاً عليّ وخوفاً على ما نسمعه جميعاً ، هناك تفاصيل كثيرة ومثيرة أترقبها هنا 

صلينا فجر الجمعة في الفندق بكانو ثم تجهزنا ننتظر صديقنا ليأخذنا إلى زيارةٍ أعددنا لها مسبقاً لزيارة أحد الأصدقاء الأعزاء على قلبي ، استقلينا السيارة وقرأنا دعاء السفر وأخذنا الطريق إلى ولاية قومبي ثم قرية نافطة التي يسكن بها صديقي ، خمس ساعات ونصف تقريباً كانت المدة الزمنية للوصول إلى موطن صديقي الشيخ ، أثناء سفرنا تنقلنا على ثلاث سيارات ، نقاط التفتيش على بُعد مسافات متباعدة ، تزداد دقات قلبي كلما اقتربنا من احدى نقاط التفتيش ، لم تعتاد عيني على رؤية أفراد الجش مؤججين بالأسلحة خوفاً وحمايةً من تبعات الجماعات الباغية بوكو حرام التي أوجعت قلوب الكثير من أهل تلك البلاد إلا أن الحكومة أوجدت لدائهم دواء ، وصلنا إلى موطن صديقي الشيخ الدكتور المحدث محمد الحافظ بن الشيخ العلاّمة محمد آدم النفطي رحمه الله شهيد السجادة ، واستقبلنا بكل حفاوة وسرور لم يخطر ببالي ، صلينا معهم صلاة الجمعة ثم بعد الصلاة أخذ صديقي يرحب بي وبمن معي ويعرّف أهل البلدة علينا ، وما إن أخبرهم أني من مكة ومن حفاظ القرآن بقراءاته انكب علينا الناس ترحيباً فرحين مستبشرين بقدومي لهم ، وهم يسلمون عليّ والخجل يتقطر على وجهي ومظهري ، لم أكن أتوقع حبهم الشديد للقرآن وأهله ، ذكرنا معهم ثم أخذني صديقي إلى احدى الزوايا الدينية ليعرفني على شيء من جهوده واهتمام الناس بالعلم ، صليت بهم فجر السبت من سورة الفرقان برواية ورش عن نافع المدني ، وأثناء القراءة يتملكني خوف خشية الخطأ في موضع من مواضع التلاوة حيث المأمومين صغاراً وكباراً يحفظون القرآن كما يحفظ الواحد منا سورة الفاتحة دون أي خطأ أو تردد ، أخذنا بعدها نتجول في أروقة المعهد الموجود في تلك الزاوية الدينية لتعليم القران واللغة العربية ، رغم ان المعهد في قرية بعيدة عن المدن الا ان طلاب المعهد يتحدثون العربية وكأنهم نشأوا في بلاد العرب ، أستاتذتهم خريجي جامعة الأزهر الشريف بمصر ، شعورٌ بالفخر والعز حينما أرى أناساً لم يمنعهم الفقر عن الدراسة وطلب العلم بكافة أنواعه وتخصصاته ، صديقي الشيخ أكرمنا فوق ما نتوقع وبالغ في الكرم جزاه الله خيراً ، صلينا الظهر والعصر وقفلنا عائدين ولكن سكان تلك الزاوية وطلابها حزنوا وبكينا سوياً لذهابي ولا أدري هل أعود لزيارتهم أم تمنعني الظروف ولكني وعدتهم بالزيارة تارة بعد تارة وعسى أن أُوفي بوعدي بما قلت لهم ، ونحن في طريق العودة انهال علينا الجوع فأخرج السائق طعاماً قد أعده أهل بيته لنا فأكلنا غداء من الدجاج الذي لم أذق مثله قط في حياتي من جمالية طريقة الطبخ والإعداد ، وصلنا سالمين إلى رحاب الفندق في كانو لإكمال مسيرة الارتباطات الخاصة .

مدينة كانو التي تقع في شمال البلاد النيجيرية مشهورة بكثافتها السكانية وأكثرية سكانها الفقراء وذوي الدخل المحدود ومن هم دون خط الفقر وبعضٌ من الأثرياء الأغنياء ، مازالت كثير من البيوت والأحياء يعاني أصحابها من كثرة انقطاع الكهرباء ، واعتاد كثير منهم على التعايش بدون الكهرباء ، مع بزوغ الفجر تعود الأرواح إلى أجساد أصحابها فيستيقظ الجميع كلٌ ميسرٌ لما خلقه الله ، الكل يكد ويشقى ويتعب من أجل توفير لقمة عيش كريمة دون الحاجة لمد اليد طلباً للمساعدة ، قليلون جداً الذين يخالفون هذه القاعدة الربانية لكسب لقمة العيش بأمور غير إيجابية ، أكثر وسيلة مواصلات أجدها مستخدمة في الشوارع هي التك تك ، سريع المسير خفيف القيمة على أهل البلد ، أبسط المشاوير وأبعدها لا تتجاوز قيمتها 500 نيرا حيث الريال السعودي الواحد يعادل تقريباً 100 نيرا نيجيرية ، طعامهم لذيذ وأكثر ما يكرمون به الضيف هو تقديم الدجاج بإحدى طرق الطبخ المشهورة ، يتفننون في إعداد اللحم المشوي كالسيريه وإخوانه من اللحوم الأخرى المشوية رغم قلة مؤشرات النظافة والله المستعان ، في أغلب أطعمتهم يضعون الفلفل بكمية متوسطة ، وأحيانا يزيد مقدار الفلفل على مزاج الطباخ ، والكل معتاد على ذلك ، وأما شراب الفُرا فلجماله يصعبُ عليّ وصف لذته ، الدخن المطحون الناعم مع اللبن الطازج والسكر وبعضهم يضيف شيء من فاكهة جوز الهند ، دخلتُ إحدى الأحياء البسيطة لزيارة من لي معرفة به للسلام عليه ، وأنا أُشاطر خطواتي إلى مأواه مع صديقي والأحاديث نتلذذ بها ، أسرق المشاهد الأخرى بنظراتي البسيطة لفهم كيان تلك المجتمعات ، ترددت كثيراً لإخراج جوالي لتوثيق عدد من الأمور التي تدهشني ، فسرعان ما أتراجع عن التصوير خشية لفظ الأنظار ولحداثة جوالي الآيفون 😄 ، المحلات في كل مكان من نواحي الحي ، والمساجد صغيرة بسيطة المبنى ، وبجوار أغلب المساجد حِلق القران تعليماً وتعلّماً ، اهتمامهم بالقرآن الكريم شيء منقطع النظير ، منذ أن يبلغ الطفل الثلاث سنوات ويبدأ إرساله إلى تلك الرياض القرآنية لتقلي أنوار القرآن شيئاً فشيئاً حتى يحفظه مع مرور الأيام كما يحفظ اسم أمه وأبيه ، يتقنون حفظه كتابةً وقراءة ، لا يُعترف بالحافظ منهم إلا بعد كتابة القرآن كاملاً بخط يده بتشكيل الحروف وتزيينها ، زُرت الأستاذ سادس ، أحد الذين نشأوا وترعرعو بالمدينة المنورة ، وجاءت به الأقدار التي هذه الديار ، يعيش ببساطة وعفوية ، يعمل صباحاً لتوفير لقمة العيش له ولذريته ، وفي المساء يعلّم القرآن لطالبيه فهو خبير بذلك ، أراني مصحفه الذي كتبه بيده الطيبة المباركة في غضون سنة وثمانية أشهر ، عجيبةٌ هي أحوال هؤلاء مع القرآن فحقاً مثل هذا ومن معه هم أهل الله وخاصته ، ودّعت الأستاذ سادس إلى موعد آخر عسى أن نلتقي ، فبادرني متشوقاً أن لا أغيب عنه ، خرجت وكلي أمل لما أراد ، زرنا رجلاً آخر العم عبدالعزيز ممن نما ظفره ونبت شعره في المدينة المنورة ، تزوج منذ أربعين عاماً ولم يكن له نصيب من الإنجاب والذرية ، لأمور خاصة جاء هنا وتمكن من الجلوس وتزوج مرة أخرى وسرعان ما أكرمه الله بالذرية ، فسبحان الله في خلقه وحكمته وعباده ، له في كل شيء حكمة وتقدير .

عوامل تغيّر الأجواء تُصيب الشخص بالزكام وشيء من الخمول ، تبدأ الأجواء صباحاً بتوسط في البرودة وهي أقرب إلى الدفء ، وما أن تكشف الشمس الحجاب عن وجهها الحسن حتى يصير بعض الأشخاص يصببهم شيء من العرق جراء المشي الكثير وبعض الأعمال الشاقّة ، وتبدأ الشمس في اكتساء حجابها والإنحياش إلى حجرها فيدخل الليل بسكونه وبرودته التي تتطلب دفء صناعي ولمن استطاع جمعه بالطبيعي فهو حسن ، هكذا كانت أجواء مدينة كانو في اليومين الماضيين ، أتعايش من تلك التقلبات الجوية بملابس ثقيلة وحليب دافئ لعل وعسى ينوبني دفء يغنيني عما لا أريد ، وفي اللحظات الساكنة ليلاً أتذكر قبل أغمض عيني صديقي عمر الذي انهال عليه التعب والمرض قبل سفري من مكة بيومين تقريباً ، كنت أظنها حالة تغير جوي معتادة ستمر عليه ويستعيد عافيته كما عرفته وعهدته ، جئت إلى كانو وانهالت عليّ الأخبار ازداد تعبه ومرضه ، ليت المسافات قصيرة أحمل قدمي وأعود إليه أعاوده وأزوره حتى يُعافى ، تحاملت على نفسي وقلت لعلها هينة خفيفة ويزول البأس عنه ، والقلب لاهجاً بالدعاء والإرتجاء فاللهم الشفاء التام والعافية الكاملة العاجلة لعمر ، أنام وأستيقظ وأراه كاتباً في جواله اللهم الشفاء الشفاء ، ازداد قلقي وأعاتب نفسي ليتني لم أسافر حتى أُجاوره في لحظته الشديدة ، توقفت عن العتاب لنفسي وأَخَذت مدامع عيني تغالبني ، فاللهم المستعان على ما كان وما يكون وما سيكون ، طويلاً لم أشعر بالضُعف كحالتي هذه ، مسحت دمعي ونمت عسى الله يخبرني بما يسرني عن عمر ، صحوت فجراً وأحواله في تحسن كما يريد ربنا ، نظرت إلى جدولي يومي ماذا لديّ من مواعيد ، زرت صديقنا الشيخ إدريس في بيته في أطراف كانو ، فرح برؤيتي كثيراً فوق ما أتوقع ، عشر سنوات لم نلتقي ، تناولت عنده الغداء اللذيذ المكوّن من دجاج مقلي ببهارات أفريقية لذيذة جدا ، ونحن نعمل بكل قوانا للتعايش مع هذا الغداء الجميل ، صديق للشيخ إدريس عرف بعنديتي شيء من العلم فأخذ يحاورني ويسألني ، موضوع اللحية أولاً والمولد النبوي ثانياً والفلسفة ثالثاً ، بعد نقاش عتيد ظهر لي قصور فهمه المؤسف عن مفاهيم الشريعة والتعامل الصحيح مع نصوصها وأفعالها فهماً وحكما ، بعد أجوبة بدأت أطرحها اتضح لي السكوت في بعض المواطن أفضل من الكلام ، انتهينا باعترافه بنفسه على قصور فهمه الشديد للشريعة ، افترقنا مع أمله للقاء آخر وأنا أُمنّ النفس بالعدم ، بعدها أخذني صديقي ابراهيم بدراجته النارية لزيارة أخي خالد ، أخذنا أقصر الطرق رغم صعوبة بعضها حتى وصلنا لأخي خالد بعد طول وصف وبيان ، رآني وكأنه أول مرة يراني ، تعانقنا فرحاً وسروراً ، أخذ بيدي يعرّف أهل الحي بي وأني جئت خصيصاً للسلام عليه ، يفاخر بي مع كل شخص يقابله ، قرأت الفرح الذي يعيشه هنا ، وبهجة أصدقاءه بي كانت كبيرة وجميلة ، ترحيب من غير ترتيب بشري ، عشنا لحظات جميلة جداً ، ودعته آخراً على زيارتي له مجدداً دون أن أغيب عنه كثيراً ، اللهم وفقني للوفاء بوعودي رغم كثرتها .

بعد فجر الخميس تجهّزنا راشدين صوب ولاية بوشي لزيارة عَلَم من أعلامها ، ذهبنا إلى موقف السيارات وحجزنا مقاعدنا ودفعنا المبلغ لكل شخص ، السيارة التي ستأخذنا إلى السفر ذات صناعة هندية عائلية الحجم ، هي قريبة التصميم من سيارة أنوفا صناعة تويوتا ، يُطلقون على هذه السيارة ( شارون ) لسرعتها وقوتها وثباتها في الطريق ، المسافة بين ولاية كانو وولاية بوشي تقريباً 300 كيلو وقيمة الراكب 1800 نيرا ما يعادل 18 ريال سعودي ، فطرنا من بسطات الشوارع ثم انطلقنا إلى سفرنا ، سائقو السيارات في السفر يمتلكون مهارات عجيبة وعالية في القيادة رغم هزالة بعض طرق السفر في هذه البلاد ، والله هو الحافظ أولاً وآخراً ، وصلنا إلى مطلبنا واستقبلنا صديقي العزيز الشيخ حسن سيسي بن الشيخ طاهر بوشي ، أخذنا بعضنا بالأحضان شوقاً وهياما ، حسن خريج الأزهر الشريف ومتمكن من علوم الشريعة ، أخذنا بسيارته الصغيرة إلى منزل والده الشيخ الهُمام ، دخلت إلى بيته والطلاب حوله كثيرون ، الشيخ المفسر طاهر عثمان بوشي بلغ من العمر 94 عام ، عالم بالقران ومفسر ضليع وخادم للقران ، موطن للشريعة والحقيقة ، سلمت عليه سلام صغير لكبير وسلام تلميذ لمعلم وسلام محب لحبيب ، فرح بزيارتي كثيراً فأكرمني وأحسن وفادتي ، أخبر لطلابه أني حافظ للقرآن بالقراءات العشر ومن أهل مكة الكرام ، انهال علينا الناس راغبين التحية والسلام ، أخذنا صديقي الشيخ حسن لتناول طعام الغداء ، أطلعني على بعض معاهد القرآن التي أنشأها والده الشيخ طاهر ، اهتمامه بالقرآن عجيب ، أكرمه بذرية عددها 76 ذكوراً وإناثاً ، 50 منهم من حفاظ القرآن الكريم ، وأغلب الشباب درسوا بمصر في الأزهر الشريف في مختلف التخصصات ، ودّعنا الشيخ حسن ومعه على أمل لقاء الأجساد مرة أخرى ، وأما الأرواح فمتصلة دائماً لا تغيب ولا تنقطع عن بعضها ، عدنا إلى أدراجنا فرحين مسرورين ، وفي صباح السبت استهدينا بالله سبحانه إلى موقف السيارات للسفر إلى العاصمة الإدارية للبلاد ( أبوجا ) حيث تبعد عن ولاية كانو 450 كيلو تقريباً ، ولكن هذه المرة لم نسافر بسيارة شارون ، وإنما حالفنا الحظ بسيارة صغيرة الحجم ولكنها متوحشة أكثر من شارون ، سعر الراكب من كانو إلى أبوجا 3000 نيرا ما يعادل 30 ريال سعودي ، غادرنا إلى أبوجا إلى حيث دار مفتي البلاد فضيلة الشيخ الإمام إبراهيم صالح الحسيني حفظه الله ورعاه ، جميلة هي العاصمة هادئة وواسعة الطرق ، صلينا الظهر مع المنتظرين في صالة الإستقبال ، دقائق معدودة وتم النداء على اسمي للدخول على المفتي وتم تقديمي على المنتظرين لمجيئي من مكة المكرمة ، دخلنا وسلمنا على الشيخ ابراهيم واستقباله لنا فاق التصور والخيال ، أكرمنا وزاد في الكرم كثيراً ، جلسنا معه جلسة لا تُشترى بثمن ، ودعته بوعد صادق للقاء آخر ، فوائد هذه الزيارتين لا تُكتب الا بمداد فريد على ورق كثير وفير . 

 

( نيجيريا والمواليد العائدون إليها )

بعض الظروف الغامضة أجبرت الكثير من أبناء القارة السمراء ممن كان مكتوب عنهم في اللوح المحفوظ أن يُولدوا وينشأوا في السعودية بالأخص في الجزء الغربي منها ، أن تتعاكس مع آمالهم وطموحاتهم بعض الأمور الخارجة عن الإرادة وتُخرجهم الأقدار قسراً وقهراً من السعودية إلى أفريقيا ، فمنهم من كان ظالم لنفسه ، أشرّ سيء الطبع والطباع ، جرّته أفعاله المشينة إلى العيش في أفريقيا ، ومنهم المظلوم المكلوم ، قهرتهم جبورتية أحوال لا علاقة لهم بها فنالهم من شرارتها الشيء الكثير ، فصلّوا العشاء في رحاب أهاليهم ، وفجأةً يقرؤون أذكار الصباح في بلاد أفريقيا ، لا يحتمل الأمر إفصاح وإيضاح أكثر من ذلك ، فالكل يدري أين موقد الشرر والخلل ، لقيت هنا في كانو صديق لي أذنب ذنباً وتكفير ذنبه كان الرحيل قسراً إلى بلد لا يعرفه إلا في وسائل الإعلام وعلى صفحات الأوراق الرسمية ، بداية حاله أصابته صدمة واقعية وسرعان ما تلاشت تلك الصدمة ، أخذ بسواعد قواه يندرج في المجتمع الجديد شيئاً فشيئا ، عرف طباعهم وأحوالهم وأصبح منهم وفيهم ، يكدّ صباحاً لتوفير جزء من لقمة العيش ، وفي المساء يندرج في مسالك التعليم ليكمل ما انقطع عنه ، صبر وصابر حتى تحققت أهدافه وأصبح معلماً يُرمز له بالبنان ، اقترن بامرأة من جميلات القبيلة الفلانية ، تعلّق بها وتزوجها وهو يصف حاله كأنه في جنات النعيم يعيش ، يبدو أنها امرأة قمرية ظاهر وباطن ، لعلها كالريحانة تعطّر أنفاسه وأحواله كلما أقفلت الدنيا أبوابها في وجهه ، أصبح صديقي نموذجاً رائعاً لقهر الظروف ومعايشة الواقع بما يمكن دون ضرر ولا إضرار ، فليت الكثيرون من الراحلين إلى أفريقيا مثل صديقي هذا ، وفي خضم وجودي هنا في كانو تذكرت بعض الذين أكنّ لهم المودة والمحبة ، زرت بعضهم على عجل ، وندمت على زيارة بعضهم ، إتكاليون فوق ما يتوقع الإنسان ، لرخص المعيشة في كانو يعتمدون على ما يأتهم من أهاليهم من تلك المبالغ البسيطة ، ولكنها في كانو ذات قيمة عالية ، رغم وجودهم من فترات طويلة هنا إلا البعض منهم أحوالهم لا تسر الخاطر ، رغم امتلاكهم لمقومات يستطيعون العيش بها في أي مكان كان ، أرجوا أن تكون هذه الفئة قليلة ولعلها تتضاءل مع الأيام ، فالأحوال الآن لا تُحب الإتكاليين الطائشين في عرصات الشراب ورواد أحضان النساء الزائغات ، نماذج الحُسن في ازدياد ونمو ، رغم كثرة الهادمين العابثين بآمال الغير ، فالنجاح لا يتعلق بالمكان فقط ، فنجاح النفس وتحفيزها على الآداء وإتقانه جوهر أساسي لتخطي كل الصعاب . 

 

( مسك الختام ) 

خمسة عشر ليلة قضيتها في رحاب البلاد النيجيرية العتيقة ، قبل المجيء إليها كنت أشعر بكثرة الأيام وهممت بإنقاص عمر الرحلة ، واليوم هممت في خاطري لو أني جعلتها ضِعف ما رسمت ، ولكنها رشفة أشواق وبداية طرق الأبواب ، كان مسك ختام تلك الزيارات التي لم أستطع الوفاء إلا بثلثيها وأبقيتُ الأخير إلى وعد قريب أتمناه وعسى الله يوفقني لذلك ، لقيتُ رجلاً عاش بيننا ثلاثين عاماً وزيادة ، تحت أنظار والدي ورعاية بعض كبار الحي ، أتى هنا إلى البلاد لأمر لا يريده ولكن قدر الله أسبق ، جاءني إلى مقرّ وجودي والتقت عيني بعينه وأدركت زمناً بعيداً لم نلتقي ، صادفته شكلاً وجسداً في مكة قبل خمسة عشر عاما ، لم تتغير ملامحه سوى بعض التجاعيد القليلة على محيّاه ، وأما أنا في نظره فقد تغيّرت الملامح كثيراً ، فارقتهُ أمرداً ولقيتهُ ووجهي عليه حلاقة الأفراح والأتراح ، تجاذبنا أطراف الحديث كثيراً دون شعور بالوقت والزمان رغم كثرة أشغاله ، أخذ يسألني عن أشخاص تركهم وهم أحياء أصحّاء ، ولقي مني الجواب وبعضهم في رحاب الملك المنان ، أبي الذي مات منذ عقد ، وعمتي وبنيها ، وأخي الذي رحل صامتاً كما رأيته ، خيّم الحزن على ملامح هذا الرجل وكأنه لم يكن يتوقع سماع الأجوبة مني هكذا ، أشعر أنه كافح بكل قواه لكي لا أرى دموعه تهطل أمامي ، لأني حقاً وصدقاً سأسابقه في البكاء على حاله وعلى أشخاص تذكرتهم مجدداً رغم أني ما نسيتهم ما حييت ، أخرجته من حالة حزنه إلى حالة سعادة وأُنس ، بذلك أحسست أني كافئته بإضحاكه ، تفرقنا على أمل اللقاء وعسى أن يكون قريباً ، أخذت في شوارع مدينة كانو أقطف من رحابها نظراتي الأخيرة وقلبي يحدثني بالعودة إلى نيجيريا دائماً دون انقطاع ، حقاً وقعت في حب أفريقيا لأنني ظلمتها في ثقافتي الضئيلة ، وهي قد فاجئتني بما كنت أعرف عنها ، كل من عاد إلى أصله يستطيع العيش بطبيعة حال بلاده لا كما عاش ونشأ في غيرها ، لكل مقام مقال ولكل سؤال جواب ولكل حادث حديث ، أفريقيا من يراها سيئة الوصف والحال فهي ستبقى كذلك أبد الآبدين ، ومن يراها زهرة تنمو وتزدهر بما تُسقى وتُثمر فهي كذلك ، وكلٌ أدرى بما يريد ويبتغي ، سامحوني إن كانت حروفي في سلسلتي الشذرية هذه لم تُشفي غليلكم ولم تُجبر خواطركم ولم تُجيب على تساؤلاتكم فما أنا إلا بادئ الكتابة ، طفل الوصف والرتابة ، تضيع المعاني في وصف ما أردت ولكني أشعر بجهدي المبذول لوصف ما رأيت وما عايشت ، فألف ألف زيارة إلى هنا لا اعتقد ستكفي لفهم البلاد ورؤية كل جمالها ، فالحمد لله على نعمه وأفضاله وكرمه وجوده وإحسانه ، والصلاة والسلام على الفاتح الخاتم الناصر وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم . 

دُونت هذه الحروف على متن طائرة الخطوط الأثيوبية عائداً إلى مكة الغرّاء 2019/01/17 مـ