مدونة أبو فراس عبد العظيم بن عبدالله هوساوي

عبير الفانيليا من رحلة كينيا

( الجزء الأول ) 

أنا وصديقي عمر وصلنا صباح السبت إلى نيروبي عاصمة كينيا ، وهي إحدى مكامن جمال الطبيعة وصنع البديعة، أجواءها ماطرة هذه الفترة من شهر أكتوبر ، بدايةً من مطارها الدولي واجهتنا مشكلة بسيطة أدركنا أنها منبثقة من قول (اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر) تيسرت الأمور في لمح البصر ودخلنا سالمين غانمين آمنين مطمئنين، كان في استقبالنا صديقنا الحبيب آدم وذهبنا أولاً إلى الفندق ذو الأربع أنجم لأخذ قسط من الراحة، خرجنا بعدها للتجوّل وكان الغيث الرائع في استقبالنا ، غيثٌ لا أذية فيه ولا تعب ، يبعث في القلب الطمأنينة والسكينة ، تجولنا في أزقة العاصمة ومتعلقاتها وما زال الغيث يُشدينا بلطفه وكرمه ، أدركتنا صلاة العصر وأتينا لجامع كبير في وسط المنطقة الحيوية، ونحن على بوابة الجامع وجدنا رجل من الهند ذو لحية متوسطة وعليه عمامة زرقاء وهو من الديانة الهندوسية ، كان يوزّع الطعام على الفقراء والمساكين دون أي اكتراث منه بديانة هذا المسكين، فقط يساعد الناس بالطعام بمختلف الأشكال والألوان ، دخلنا إلى الجامع وهو وسيع المكان والمساحة ، عدد المصلين في فريضة العصر ما يوازي عدد المصلين في صلاة الجمعة عندنا ، اهتمام الناس بالعبادة أمر فطري وطبيعي زادهم الله من فضله ونعيمه ، وفي اليوم الثاني استفتحنا بما يرضي الله ورسوله واتجهنا إلى محطة الباص وركبنا متجهين من نيروبي إلى لومورو لزيارة إحدى مزارع الشاي والتمتع بالأجواء والمناظر الرائعة ، رأينا ما يثلج صدورنا وقلوبنا ويرتقي بأرواحنا إلى بعض مراتبها ، تغدينا اللحم المشوي على الحطب بالبهارات الأفريقية المشوبة بشيء من الفلفل ، روعته لا تُوصف ومذاقه لا يُقاوم.

( الجزء الثاني )

صبيحة يوم الاثنين استعنّا بالله سبحانه آمنين مطمئنين وانطلقنا راشدين إلى منطقة (ماساي مارا) حيث السفاري والمغامرات لرؤية الحيوانات بمختلف أشكالها وألوانها على طبيعة حياتها وبيئتها ، كانت المسافة للوصول إلى ( ماساي مارا ) ست ساعات مع تعجّر الطرق ، استغلينا سيارة مخصصة للسفاري ذات سقف مفتوح ، وصلنا إلى مسكننا في وسط السفاري حيث توجد غرف مخصصة للسوّاح مكتملة الأغراض مع حراسة متدربة متمرسة ، بدأنا في التفسّح لرؤية الحيوانات وكان أول ما رأينا الغزلان صغيرها وكبيرها ، تسير الغزلان مجموعات لا فرادى احتراساً من أي هجوم ، جميلة المظاهر ويبدو أن لحمها لذيذ للشواء رغم اننا لم نفعل ذلك ، رأينا الكثير والكثير من الحيوانات التي لا نراها الا في التلفاز ومشاهد الافتراس ، مررنا بمنطقة الأُسود وكانت في راحة تامة واسترخاء كامل ، اللبوات تهتم بصغارها وتلاعبهم والأسد يجلس كأنه إمبراطور وهو في الحقيقة ملك في بيئته ومنطقته ، اقتربنا منهم باحتراز وكانت مناظرهم رهيبة جميلة ، وأثناء التنزه في السفاري كان من ضمن رغباتي رؤية حيوان طالما أدهشتني فراسته وقوته مع سرعة بديهته ، ألا وهو النمر بالشهير بنمر الليبورد ، شرس بما تعنيه الكلمة ، يصطاد فريسته مهما كان حجمها ويصعد بها إلى أعلى الشجرة ليتلذذ بمذاقها لوحده ، رأيناه على صخرة ملساء تحيطها الخضرة ، كان مسترخياً عليه آثار النعاس ، والحمد لله أنه كان على حالته هذه ، ذهبنا لإكمال جولتنا ورأينا بديع صنع الله ، حان وقت الغداء فانزوينا إلى ركن حيث يجتمع السياح وفرشنا متاعنا وبدأنا تناول طعام الغداء، وأثناء تناول الغداء مرّت بجانبنا سحلية ذات حجم كبير طولها ما يقارب الذراع أو أكبر بقليل ، قمنا من مكاننا ولم نكمل الغذاء الا في السيارة ، يقول أهل المكان انها غير مؤذية 😒 ، أكملنا الجولة والتقطنا الصور لأشياء كثيرة ، ومررنا بالبحيرة التي فيها فرس النهر ، ذو الحجم الكبير الذي إذا فتح فمه يستطيع هضم إنسان في لحظات وجيزة ، وعند العصر في طريق الخروج من السفاري مررنا بصاحبنا نمر الليبورد ورأيناه مستلقياً على الشجرة 😅 ، اقتربنا منه وأخذنا صور تذكارية له وأكملنا مسيرتنا عائدين إلى سكننا بعد يوم متعب مجهد مع صعوبة الطريق في المحمية ، كانت رحلة السفاري يومين كاملين ، يُنصح بها لمن يحب المغامرات ، والله هو الحافظ في كل الأحوال مع اتخاذ الأسباب . 

( الجزء الثالث)

غادرنا بفضل الله العاصمة نيروبي واتجهنا راشدين إلى مدينة مومباسا ، انتقلنا إليها بالقطار حيث كانت المدة الزمنية للوصول إلى مومباسا خمس ساعات ، وهي مدينة ساحلية تطل على البحر ، أجواءها حارة مع الأمطار المستمرة ، تطلّ عليها الشمس دقائق معدودة ثم تعود وتختبئ خلف السُحب ، مكثنا في مومباسا ثلاث ليال رائعات، والأمطار كل يوم تهطل صباحاً إلى الظهر، أجواء من شدة جمالها يحتار في وصفها الشعراء والأدباء ، وفي إحدى تلك الليالِ الثلاث زرنا مدينة ( مالندي ) وهي لا تبعد كثيراً عن مومباسا ، أدركتنا صلاة العصر فدخلنا المسجد ومن عاداتهم في المساجد خلع النعلين عند الباب ثم الولوج إلى المواضئ بأحذية أخرى حفاظاً على نظافة المكان ، عند إقامة الصلاة جاء المؤذن فجهر بالصلاة على النبي صل الله عليه وسلم بالصيغة الإبراهيمية ثم أقام الصلاة ، وبعد الإنتهاء من الصلاة يذكر كل واحد بمفرده أذكار الصلاة ثم يدعو الإمام جهراً والناس تؤمّن على الدعاء ، وهذه عادتهم منذ زمن وهي واردة ثابتة عند الأئمة الفقهاء والحمد لله ، بعدها زرنا الرجل الطيب الصالح ذو الصوت الشجي السيد أحمد البدوي جمل الليل ، وهو من أهل كينيا ذو أصول حضرمية ، رغم كبر سنه وهو في العقد السابع من العمر إلا إن صوته في المدائح النبوية جميل جداً ، وكان أول لقاء لي معه في مدينة أبو ظبي بالإمارات قبل ستة أعوام في ضيافة أحد الأحبة فسهرنا معه وصحبه سهرة نغمية نادرة ، ثم تكرر لقاءنا معه مرة أخرى قبل شهر من الآن في مكة ، وهذه الأيام أثناء سياحتي في كينيا تذكرته وواصلته وزرته في بيته ، حيث هذه الأيام يتجهّزون أهل تلك المنطقة لإحياء الليالي بإنشاد المدائح وقراءة السيرة النبوية ابتهاجاً بقدوم شهر ربيع الأنور ، حيث هي عادتهم طيلة شهر الربيع ، فأكرمنا السيد الكريم بما أكرمه الله فجزاه الله خير الجزاء وأوفاه والحمد لله رب العالمين .

( الجزء الأخير ) 

قبل العودة إلى مكة المكرمة كان لنا لقاء على مأدبة الغداء مع مجموعة من أبناء مكة القاطنين في العاصمة نيروبي لدراسة اللغة الإنجليزية ، كينيا إحدى وجهات الشباب الراغبين لدراسة اللغة لأسباب كثيرة ، أهمها أن لغة البلاد الرسمية هي الإنجليزية ،  الأمن المستتب في البلاد ، وطيبة شعب كينيا وسهولة التعامل معهم ، ووفرة المعاهد للدراسة برسوم مالية تُناسب كافة الطبقات الأسرية مع توفر السكن المناسب ، كان اللقاء لم يتجاوز الساعتين، كانت من اجمل الساعات وأرقى اللحظات ، ممن كان حاضراً معنا عرّاب الاستثمار ورجل الأعمال ابن مكة البار الدكتور نبيل بارون هوساوي وحبيبنا الغالي عبدالرحمن مالك برناوي وبعض الشباب الكرام الذين تشرفنا بمعرفتهم عن قُرب وامتزجت أرواحنا بأوراحهم ، افترقنا على أمل اللقاء مرة أخرى بكل شوق ومحبة ، آخر يوم لنا في كينيا كانت الأجواء ماطرة ممتعة لا أذى في المطر ولا تشاؤم ، أمضينا اثنا عشر يوماً في هذه البلدة الجميلة تجولنا في رحابها واستمتعنا بطبيعة تضاريسها وجمالية محتوياتها ، خلال تواجدنا رافقنا حبيبنا الغالي والصديق الكريم آدم ، الذي يعرف كينيا بمداخلها ومخارجها وأضفى أرواحنا أجواء من السعادة والسرور ، فجزاه الله عنا خير الجزاء ، السفر مفيد لكل البشرية فهو تغيير للروتين اليومي وتجديد عهد الروح والجسد ، ومتنفس من كل المشاغل والمتاعب ، وكلٌ على قدر حاله ومحاله وأوضاعه ، افريقيا متنفس لا يعرفه الكثير ، فطبيعة أرضها جذابة تكفي كل شيء ، اللهم أدم علينا فضلك وكرمك وجودك وإحسانك ، وصل الله على سيدنا محمد الفاتح الخاتم الناصر للحق بالحق والحمد لله رب العالمين.