صباح يوم الإثنين الرابع من شهر رجب 2011 مـ وعلى مقاعد الدراسة الجامعية بكلية القرآن الكريم وكل طالبٍ منّا ماسكٌ كتابه يذاكر مادة القراءات، الكل في هوسٍ من ضخامة المادة وتخوّف من رهبانية الأسئلة التي لا نعرف حالها ومحتواها، نذاكر وكلنا أمل تجاوز الاختبار ولو بأقل الدرجات، سمعتُ حينها شخصٌ بجواري متحدثاً مع زميله رغبة سفره لمصر لملاقاة أحد مقرئيها الكبار، لينهل من معينه ويُسقى من نهره الزلال، التقطت أذناني اسم ذلك الشيخ، حسنين عفيفي جبريل، دونّت الإسم في دفتري للقراءة عنه وعن أحواله، دخلنا قاعة الاختبار وكان المضمون أهون مما توقعنا وأخفّ من وهج تخوفنا، خرجنا آمنين مطمئنين، عدتُ سريعاً لبيتي وأخذتُ في البحث عن اسم ذلك الشيخ وعن حياته وشيء من تلك التفاصيل، فإذا به عَلَمٌ كبير ومقرئ فريد وأستاذ بديع، خصّه الله بخصائص نادرة وبمزايا فاخرة، حويتُ ذاكرتي عنه الشيء الكثير، وعقدتُ على قلبي رغبتي في ملاقاته ولو بعد حين، سألتُ عنه فإذا بالمراد بعيد والمطلوب منه أبعد، هالني شيء من الحزن الطفيف، وناديتُ في سلوى المناجاة أن هذا مطلبي وعلى الله التوفيق، لم أُبدي رغبتي هذه لأحد خوف زيادة بُعدها وتعسيرها، وهذا هو الأصل في الأماني لا تباح تفاصيلها إلا لمقصود قوي، وتمر بنا الأيام والسنون ويزداد الأمل فينا ظهوراً رغبةً وسروراً، حتى كدتُ أفقد أملي في نيل رغبتي، أُنسيتُ تلك الأماني والتفاصيل حتى حان موعد ولادة الأمنية من جديد، وعلى صعيد عرفات في حديثٍ ماتع مع صديقي أخبرني باستعداده للرحيل لمصر لزيارة شيخ كبير لطلب العلم منه والتبرّك بالقرآن على يديه، وإذا بالمفاجأة هو ذات الشيخ الذي يراودني الحنين للقياه، فكان صديقي هو السبب في تسهيل الطريق وتأمين الموعد والزاد المسير، حزمتُ حقيبتي وحططتُ رحالي في قاهرة المعز بالله، أرض الجموع والكثرة والغموض، في صباح اليوم الثاني من وصولي كان الطقس بارداً بخجل، دافئ بكبرياء، ارتحلنا إلى حيث مسكن الشيخ حسنين، مررنا بقرى وبساتين عديدة حتى ارخنا الركاب في مسقط رأسه وبيته الذي نشأ فيه ثم عاد إليه، ثلاث ساعات كانت المدة الزمنية من القاهرة وإلى مركز شبين القناطر وختاماً بقرية طحوريا حيث الملتقى، دخلنا على الشيخ وكنتُ في دهشة مما رأيت، رجل في الثالثة والتسعين من العمر بعقل حاضر وجسد كامل متعافي وذاكرة مليئة بتفاصيل الأيام وإرهاق السنين، قبّلتُ يديه كما هو المعتاد واستقبلني بصدر رحب وسعادة غامرة، سألني عن رغبتي وأبديتُ له مرادي وأنا في دهشة من أمري، من صبيحة اليوم التالي استفتحتُ معه ختمة القراء العشرة، أقرأ عليه من السادسة صباحاً وحتى التاسعة بعد صلاة العشاء، وكأنه يسمع الختمة للمرة الأولى بكل خشوع واطمئنان، وأنا أعلم علم اليقين قد سبقني في القراءة عليه قوم لا عدَّ لهم منذ سبعين سنة وإلى الآن، وهكذا دواليك حتى آذن الله لنا بالختم وكانت لحظة من أجمل اللحظات وأسعدها، حتى آخر دقيقة من تلك الختمة وكأني في حُلْم مما أنا فيه الآن، وكل شيء بالدعاء يكون، ولا يأس مع الدعاء ولا استحالة مع صدق الإلحاح، فما يريده الله سيكون وِفق المراد، ختمتُ وأمنّتُ على دعوات الشيخ وكأني في عُرس في فراديس الجِنان، فالحمد لله على التوفيق والنجاح.