نفحات العِطْر في رثاء العم بَكْر

لم أعتد على تدوين الرثاء في فراق أحد لكن بعض المواقف تُجبر القلب في إخراج شيءٍ من مكنونه ومضمونه، ففقد الأحبة الأعزاء كالنار الموقدة ذات اللهيب المتسعّر، تُصيب بشرارتها كل قريب وأقرب من كل قريب، البارحة فارقنا جارنا العزيز حبيب سكان الحي، رفيق الكبير والعطوف على الصغير، العم العزيز على القلب والخاطر بكر يوسف، العم بكر منذ وعيت على الدنيا وابتسامته تعلو محيّاه الى آخر أيام وفاته، لم يرزقه الله بالذرية من صلبه، ولكن بحُسن تعامله مع الكل كنّا له أبناء، لم يشتكي منه أحدٌ قط لا صغير ولا كبير ولم يتأذّى منه أحد، سيرته العطرة تفوح بنسيمها في كل أرجاء الحي، مجالسته أشبه بالتجوّل في رحاب بستان مليء بالثمار يقطف جليسه منه كل لذيذ ومفيد، منذ بدأت الأذان والإمامة بمسجد الحي فكان العم بكر من أوائل الداعمين لي، كان صوته بالأذان صوتٌ عتيق محفوف بشجن الزمن الماضي، رنين صوته ما زال وسيزال في آذاننا الى ما لا نهاية، قبل سنوات كنت أتعمد الجلوس معه على الانفراد فكان يذكر لي كثيراً من ذكريات الماضي، حينها كان في خاطري موضوع كبير في الفحوى والمراد وكنت أحاول مع العم بكرٍ ليحدثني عن تفاصيل هذا الموضوع فكان يتغافل عن مرادي من طرح السؤال حتى تيقّن صدق طلبي فيما أُريد، أخذ بعدها يسرد عليّ التفاصيل التي تمنيتها وأضعاف ما تمنيت، كان يراني أصطحب بعض الكتب الى مسجد لأقرأ بعد الانتهاء من صلاة الفجر الى شروق الشمس وكانت هذه عادة لي، وكان العم بكرٍ يجلس في زاوية من زوايا المسجد يذكر أوراده حتى الشروق ثم يصلّي ويذهب وهذا ديدنه الى آخر أمره، طلبني ذات مرة لبيته وأخرج صندوقاً فيه كتب قديمة أعطاني إياها وأوصاني بالمحافظة عليها جيداً وعدم إعارتها لأحد مهما كان، أخذت الكتب وحفظتها في مكتبتي ولم أقرأ فيها كثيراً، وسبحان الله قبل وفاته بثلاثة أيام نقلت مكتبتي الى مسكني الحديث ووقعت عيني على كتب العم بكرٍ فأخذت أحدها وبدأت أقرأ فيه لساعة وتزيد بدقائق قليلة، وتذكرت تفاصيل الكتاب وتوصيات العم بكر على الكتب، فما أمضت ثلاثة أيام حتى وردني خبر وفاته، بكيتُ عليه بكاءً لا صخب فيه ولا تعب، بكاء مصحوب بالحنين الى تلك اللحظات الجميلة مع العم بكر وأحاديثه الماتعة، كان يملك عقلاً مليء بالذكريات والفوائد والفرائد من كل بحر وبستان، بوفاته عمّ الهدوء والسكون على الحي وسكانه وكأن شمعة مضيئة في حياتنا قد انطفئت، رحمة ونور ورضوان وروح وريحان وجنة نعيم العم بكر وجعله الله في اعلى المراتب مع النبي والشيخ والاحباب والحمد لله رب العالمين.