مدونة أبو فراس عبد العظيم بن عبدالله هوساوي

مكتبة الشافعي وذاكرة الأيام

أيام المرحلة الثانوية كنتُ حينها مؤذناً بأحد مساجد الحي، أذهب لمدرستي صباحاً وفي المساء أترددُ على المسجد مؤذناً وإماماً في حين غياب الإمام الراتب، في هيكل المسجد مكتبة فيها أصناف الكتب ومئات العناوين من كل بستان ودولة، كانت تلك المكتبة مليئة بالمجالس لبعض الأشخاص يتحاورون فيها ويتبادلون الضحكات فيها حتى يملّون، ثم تغيرت عليهم الأحوال والأيام وكل واحد منها اتخذ منحى آخر يعيش فيه تفاصيل حياته، وأصبحت المكتبة مهجورة حزينة بعد أن كانت كالمقهى يرتادها المحبون للتنفيس عما يكتمون ويضحكون حتى يبكون، هُجرت المكتبة لأيام طويلة لا يُعلم لها عدد، وأصبحتُ أنا آتيها يوماً وأغيب عنها كثيراً، في منتصف المرحلة الثانوية أصابني ظرف قاهر لا يُوصف ألمه، في ظاهره وبادئ أمره شرٌ مستطاب ولكن بعد أيام فيه من الخيرات ما لا يعلمه الله وحده، أصبحت وقتها بلا مدرسة في الصباح لا أعلم كيف سأقضي وقتي بقية أيامي، طرات عليّ فكرة ارتياد المكتبة لتكوين صداقة معها، وكان الأمر كذلك وقعتُ في غرامها وآنستني بدفئها وحنانها، هي تلك المكتبة التي لا زلتُ أذكر تفاصيلها كما أتذكّر اسمي الآن، أصلي الفجر بالمسجد ثم أصعد مباشرة للمكتبة أُسلم عليها وأُلقي عليها شيء من تفاصيل أيامي، ومع مرور الوقت أصبحتُ لا أُطيق الجلوس في غيرها، أقضي فيها الأربع او الخمس ساعات في اليوم بلا كلل ولا ملل، كان أول كتاب قرأته كاملاً هو صيد الخاطر لابن الجوزي رحمه الله، ثم كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم الجوزية، ثم كتاب تفسير القرآن للإمام البغوي في أربع مجلدات، ثم كتاب في ظلال القرآن لسيد قطب، ثم كتاب البداية والنهاية لابن كثير في سبع مجلدات، ثم كتاب إحياء علوم الدين في أربع مجلدات للإمام الغزالي، ولي مع هذا الكتاب محبة لا وصيف لها وغرام لا نهاية له، في أحضان تلك المكتبة قرأت كتاب الإحياء أربع مرات بالتمام والكمال، فحفظت منه تفاصيل كتابه وأبجديات حروفه وتقاسيم فهمه ومراده، فقد كان في حقبة القرن السابع والثامن الهجري كان شباب العلم والتعليم في الاندلس يحفظون كتاب الإحياء بكماله كما يحفظون القرآن بسوره وآياته، فكانوا يعيشون مع الكتاب دستوراً وعلماً وتزكية، فكان الإحياء لهم بمثابة المعلّم في المدرسة والوالد في تربيته لاولاده، ومن ضمن ما قرأتُ في تلك المكتبة كتاب الرسالة للإمام الشافعي، وكتاب من وحي القلم للرافعي، وكتاب أُسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير مررتُ على كثير من أجزاءه، وكتاب الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، وكتاب الموطأ للإمام مالك، وغيرها من الكتب التي نسيتها الآن، فكانت أياماً وصيفةً تُكتب تفاصيلها بمداد القلم، كانت حقاً مكتبة المسجد نعمة كبرى لا تُقدّر بثمن، واستمرت علاقة الحب بتلك المكتبة حتى جاء الأجل الموعود بإزالتها مع كامل هيكلها والمسجد والحي وجميع تلك المتعلقات، ما زال حب تلك المكتبة عالقاً في قلبي ولا يزال كذلك ما دمتُ حيا، فمن اكرمك بوفاء من أجزاءه فوافه بالإكرام بقية أيامك.