الحرف كائن مخلوق مثل باقي المخلوقات باختلاف تصوراته وأبجدياته وتفاصيله، وله إحساس يُشْعَرُ به لمن كان له قلب نابض وإيمان يقض، متى صَدق الإنسان في نُطق حَرْفه استشعر بحقيقته الآخرون، حتى عبارات الفرح والحزن والتوبيخ والتهديد كلها أحرف تحمل في طياتها مشاعر لا تُكَذّب، ومع كثرة التطوّر العلمي في وقتنا نجد كثير من المنتسبين لدوحة الكتابة والتدوين يُكثرون من النسخ غير المشرّف واللصق البائس دون اكتراث بروح الحروف وصاحبها، وسرعان ما تظهر حقيقة الكاتب إن كان صادق الكتابة أم حامل حروفها من غير نسبة وبيان، وأذكر في هذا المقام إبان الدراسة بالجامعة حضرتُ مناقشة رسالة الدكتوراه وكان عدد المناقشين أربعة، ثلاثةٌ أثنوا على الرسالة وفخّموها بديباج التألق والاجتهاد، ولكن رابعهم كان له رأي آخر لا ينتمي إليهم ويحيد عنهم بلا تهوين، أتى دوره في التعليق وكان فارس وقته وأميره كلمته، عرّى الرسالة من زينتها الزائفة وأغدق على الباحث مكاييل من التوبيخ الغريب، وختم المناقش الأخير قوله: هذه الرسالة أكثرها منحول من غير نسبة ولا توثيق، وللحروف روائح لا تخيب، هكذا قال وتم رفض الرسالة بكل أسف، والعجيب في ذلك كله أن المناقش الأخير كان كفيف البصر يرى بنور قلبه الذي لا ينطفئ، وحقاً كما قال: للحروف روائح لا تخيب.