مدونة أبو فراس عبد العظيم بن عبدالله هوساوي

المشاركة بمسابقة القرآن بنيجيريا

وصلتني دعوة للمشاركة بلجنة التحكيم في مسابقة القرآن الكريم والقراءات العشر بنيجيريا من طرف زميل لنا أبان الدراسة بالمرحلة الجامعية بالمدينة المنورة، تجهّزنا لهذه التجربة الأولى بالنسبة لي التي طالما تمنيتُ معايشتها حقيقةً لأنها تجربة مليئة بالفوائد الشخصية، كان السفر عبر الخطوط القطرية وهي من الخطوط التي يُسافر عليها الإنسان بجسد مريح وخدمة عالية، مساء يوم الخميس انطلقنا من مدينة جدة إلى مدينة الدوحة للاستراحة ثم انطلقنا منها إلى العاصمة الإدارية أبوجا، كانت مدة الرحلة من الدوحة إلى أبوجا ثمان ساعات تامة لا نقص فيها، وكان رفيقي هذه المرة في سفري ثلاثة كتب استأنس بهم في رحلتي ، الأول رواية قصصية عن حياة أستاذٍ من أساتذة الإنشاد بمصر الشيخ سيد نقشبندي رحمه الله، فهو كروان نغمي نادر لا يُقارن بغيره من منافسيه وأقرانه، تحكي الرواية عن نشأته وحياته من الظهور إلى الأفول، والكتاب الثاني هو المجلد الأول من مجلّة طريق الحق الصادرة بالقاهرة في القرن الماضي والتي أنشأها الشيخ الأستاذ محمد الحافظ المصري رحمه الله وهي مجلة تقع في اثنين وثلاثين مجلداً كانت مأوى الكُتّاب والمفكرين والعلماء لتدوين مقالاتهم ورسائلهم على رأسهم مؤلف المجلة فهو كان شيخاً فذّا لا يُشقُ له غبار، والكتاب الثالث هو كتاب متوسط الحجم في مبادئ علم المنطق أعمل على تحقيقه يرى النورُ قريباً بإذن الله، وصلنا إلى العاصمة أبوجا ونحن خمسة أفراد وصلنا سوياً لهذه المسابقة وكان مستقبلنا عند الوصول مضيفنا وداعينا فضيلة الدكتور علي بن عبدالله الادماوي حفظه الله، فهو زميلنا في كلية القرآن الكريم وأخذ منها شهادتي البكالريوس والمجاستير ثم ارتحل إلى ماليزيا وحصل على شهادة الدكتوراه والآن فتح الله عليه في التعليم والإدارة والتجارة حفظه الله وبارك فيه ونفع به، استقبلنا بكل حفاوة وتكريم ثم انتقل بنا إلى المطار الداخلي للانتقال إلى وجهتنا الأخيرة حيث موطن المسابقة، استقلينا الطائرة وتوجهنا راشدين إلى ولاية أدماوا شرق بلاد نيجيريا وهي على حدود مع دولة الكاميرون، وقد أخبرنا مضيفنا عن أصل اسم ولاية أدماوا فقال بأن اصل الاسم يعود لشخص اسمه آدم قد أرسله الحاج الإمام عثمان بن فودي رحمه الله إلى تلك الولاية وكان هذا الشخص مشهوراً بالمؤدب آدم ويقولون عنه باللغة المحلّية مُودبّو آدم ومع مرور الأيام أصبحت الولاية باسمه، وصلنا إلى مطار الولاية وتم استقبالنا بما يفوق التصور والعُرف، أخذونا إلى مساكننا للراحة بعد رحلة طويلة وقدّموا واجب الضيافة من مائدة افريقية فاخرة، ومن ضمن أصناف تلك المائدة اللحم المشوي المعروف عند الكثير بالسيريه وهو لحم شرائح متبّل بتوابل افريقية خالصة ويُعمل بلحم البقر، وطبق آخر معمول باللحم البقري وأقدام البقر وهو ما يُعرف بالمقادم أو الكوارع  ولكن هذا الطبق عندهم له مسمى خاص باسم ( الرقدادا ) بفتح الراء وسكون القاف وفتح الدال الأولى والثانية، طبقٌ لذيذ جداً ويُصنع بالتوابل الافريقية والفلفل الافريقي الحار، وأطباق أخرى من الأرز والإيدام الافريقي، وشربنا اللبن البقري الطازج فهي أول مرة أشرب فيها اللبن البقري بهذا الصفاء واللذّة، وأما الشاي الأحمر فهنا يُعمل بحُب، يشربون الشاي معطرّاً بالقرنفل ويكون حالي المذاق، وسكان ولاية أدماوا أكثرهم من قبيلة الفُلّان وهم يحبون البقر يرعونها ويقومون برعايتها بحب واهتمام، وإذا الشخص من قبيلة الفُلّان ضَيّف زائره مما يُحب من البقر ومشتقاته فهذا دليل حبه لزائره، ثم استرحنا قليلاً واجتمعنا في المساء بلجنة المسابقة القرآنية لمعرفة التفاصيل والتأهب لتكون البداية واضحة المعالم بيّنة الطرقات ناجحة المقاصد.

ومع صبيحة اليوم الثاني تجهّزنا مبكّراً مع الإخوة الفضلاء المشاركين بلجنة التحكيم، وصلنا إلى مقر الحفل وعند وصولنا استقبلنا أمير الولاية الحاج أبو بكر مصطفى عبدالله آدم وهو حفيد الحاج آدم الذي سُميت الولاية باسمه كما أسلفنا سابقا، اُفتتح الحفل بكلمة ترحيبية لتشريفنا لهم في ولايتهم الميمونة، اُلقيت الكلمات من كبار المسؤولين والضيوف الكرام وافتُتحت المسابقة بالطلاب الأماجد، واسم المسابقة على اسم فضيلة الشيخ الدكتور المقرئ إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف علي بن عبدالرحمن الحذيفي حفظه الله، حيث أن مضيفنا وزملينا الشيخ الدكتور علي الأدماوي هو تمليذٌ نجيب لفضيلة الشيخ علي الحذيفي درس على يديه بالسنة الرابعة بكلية القرآن الكريم، وكما هو معروف صرامة الشيخ علي في التعليم والتدريس والإقراء ولكنه كان معجباً بذكاء وعبقرية تلميذه الشيخ علي الأدماوي فاتخذه تلميذاً مقرباً منه وأجلسه بين يديه في المسجد النبوي الشريف وأقرأه القراءات العشر فقويت العلاقة بينهما، فكان من وفاء التلميذ أن سمّى المسابقة القرآنية باسم شيخه الكريم، وانتشر صيتها بين أرجاء الدولة وهي الآن في عامها الثاني، والمسابقة على خمسة فروع،

الفرع الأول: حفظ القرآن الكريم كاملاً تجويداً وترتيلاً بالقراءات العشر الكبرى من طريق طيّبة النشر، مع حفظ المتون الثلاثة الشاطبية والدرّة المضيّة وطيّبة النشر، ومعرفة معاني مفردات القرآن من خلال كتاب ( المفردات في غريب القرآن ) للراغب الأصفهاني.

الفرع الثاني: حفظ القرآن الكريم كاملاً تجويداً وترتيلاً بالقراءات العشر من طريقيّ الشاطبية والدرّة مع حفظ متني الشاطبية والدرّة ومعرفة معاني مفردات القرآن من خلال كتاب ( المفردات في غريب القرآن ) للراغب الأصفهاني.

الفرع الثالث:  حفظ القرآن الكريم كاملاً تجويداً وترتيلاً بالقراءات السبع من طريق الشاطبية مع حفظ متن الشاطبية ومعرفة معاني مفردات القرآن من خلال كتاب ( المفردات في غريب القرآن ) للراغب الأصفهاني.

الفرع الرابع: حفظ القرآن الكريم كاملاً تجويداً وترتيلاً بروايتين من الروايات المتواترة ومعرفة تفسير القرآن الكريم من خلال كتاب ( المختصر في تفسير القرآن الكريم ) تأليف نخبة من كبار العلماء مع حفظ متني تحفة الأطفال والجزرية.

الفرع الخامس: حفظ القرآن الكريم كاملاً تجويداً وترتيلاً برواية واحدة من الروايات المتواترة مع حفظ متني تحفة الأطفال والجزرية.  

كان الطالب الأول في المسابقة ذو الاثنا عشر عاماً متقن للآداء حافظ للقرآن بتفاصيله يقرأ بحنجرة ذهبية عجيبة وبأنغام متقنة وكأنه مزمار داوودي أُخرِجَ من ذلك الزمن البعيد، وهكذا كل المشاركين في المسابقة تلاواتهم جميلة وآداؤهم أجمل وإتقانهم حفظاً وفهماً هو الأدهش من كل ما سبق، كنتُ أقول أني لن أسمع أجمل من تلاوات الشباب المشاركين حتى تملكتني الدهشة أكثر حين سمعنا تلاوات النساء المشاركات، فهن والله غاية في الإتقان والجودة الحرفية، يحتار الإنسان أي منهما يُميّز، ستة أيام مكثناها كل يوم منذ أوجّ الصبيحة وحتى أنصاص الليالي نسمع تلاوات المشاركين ونندهش من كل تلاوةٍ وماقبلها، ولا تسعنا الحروف لوصف ما سمعنا، ومهمة التحكيم ذات مشقّة كبيرة وتطلّب مهارات عالية الآداء والحِرْفة، حيث المُحَكِّم يكون يقظ الحواس شديد الإنتباه مُدركًٌ لماهيّة النطق السليم والآداء القويم، مُلِمٌ بدهاليز المهارات الصوتية، ومع طول الجلوس في استماع النماذج المشرقة والتنافس الشريف يزول كل تعبٍ بعد سماع ما يُشفي الغليل ويُبرد الخاطر ويُسعِد النفس المطمئنة،  وهكذا دواليك حتى انتهينا من رحلة السماع الممتعة حيث اختبرنا ثمانية وثمانين مشاركاً شباباً ونساءَ، خُتمت المسابقة بفوز الأماثل وفي الحقيقة كلهم فائزون، وذلك انعكاس قوة حفظهم وجهدهم الكبير المبذول من أنفسهم وشيوخهم وأهاليهم، وهذا حال القراء في افريقيا عموماً ونيجيريا على وجه الخصوص يعطون القرآن قدراً كبيراً من الرعاية والاهتمام والتعليم، يخرج الطالب من عند أهله صبيحة يوم السبت ويدخل مدرسة القرآن ويخرج منها مساء يوم الخميس وذلك ديدنهم كل أسبوع حتى الحفظ التام والختم الكامل، ومن أسباب قوة حفظهم هو مراجعتهم على اللوح الخشبي حيث يُكتب الدرس على الوجه الأول من اللوح ثم يقرؤه الأستاذ على الطالب ليعرف صحة النطق للحروف والكلمات ثم يحفظ الطالب هذا الوجه ويعود يعرضه على الأستاذ وهكذا حتى الانتهاء على مراحل طويلة الأمد، وأما الإتقان الآدائي والصوتي فتُعقَدُ جلسة جماعية للطلاب يقرأ عليهم الأستاذ بآدائه السليم ثم يردد الطلاب خلفه جملةً جملة معقودةً بصحة المخارج وضبط الوقف والإبتداء، وبعض المدارس القرآنية نظامهم بالتعليم الحديث يأتي الطالب في أوقات محددة ليحفظ ويراجع ثم يعود للبيت، ومما يلفت الأسماع أن كثيراً من الحفاظ يراجعون في بيوتهم على أصوات الختمات المسجلة لأشهر قراء العالم وعلى رأسهم فضيلة الشيخ محمود خليل الحصري والشيخ علي الحذيفي والشيخ محمد أيوب والشيخ محمد صديق المنشاوي، ولكن التأثير الأكبر من القراء على الحفاظ الإفريقيين هو صوت الشيخ محمود الحصري فصوته مدرسة يُستند إليها في التأسيس الآدائي والضبط الكلمي والتقويم التجويدي، يقرأ الحافظ الافريقي أمامك وكأنه أعطي حنجرة الشيخ الحصري، وخاصةً ختمة الشيخ الحصري برواية الإمام ورش عن نافع فهي الاكثر ذيوعاً وانتشارا، ولا يخفى علاقة الحفاظ والقراء برواية الإمام ورش عن نافع وانتشارها في جنبات القارة الإفريقية، حيث علماء المذهب المالكي نشرو الفقه المالكي في افريقيا مقروناً بقراءة الإمام نافع إمام برواية ورش أو برواية قالون، فأصبحوا يتفقهون بمذهب الإمام مالك رحمه الله ويقرؤون في عباداتهم برواية ورش، وبذا أصبحت رواية الإمام ورش هي الأكثر انتشاراً في القارة الافريقية، ومما زاد تعلّق متبعي المذهب المالكي بالقراءة النافعية حيث جاء في كتب التراجم ان الإمام مالك بن أنس رحمه الله قرأ القرآن الكريم على الإمام نافع. 

انتهينا من المسابقة وتم تكريم المراكز الأولى في كل فرع من الفروع المذكورة آنفاً ثلاثة فائزين بمبالغ مالية وهدايا قيّمة، وأما الفائز من الفرع الأول في القراءات العشر من طريق طيبة النشر قد أجاد وأحسن وأفاد، وزيادةً على تكريمه بالمركز الاول فقد عمّمه أمير الولاية بعمامة الحفاظ، يُلبَس القلنسوة الإفريقية وهي قلنسوة غالية الثمن يلبسها كبراء وعلية القوم، ثم يُعَمم بعمامة بيضاء طويلة يقرب طولها خمسة أمتار تُلَف حول رأسه بنصفها تقريباً ثم يُسدَلُ الباقي حول خدّيه وأسفل ذقنه، وقرأت قديماً أن الإمام مالك كان يتعمّم بهذه الطريقة، ومازالت هذه الطريقة في التعمم شائعة ومنتشرة عند كبراء شيوخ افريقيا وعند كثير من القبائل وشيوخ العلم، وبعد تلبيسه العمامة يُلبس عباءة فاخرة التجهيز والتطريز ويُطلقون عليه لقب ( القوني )  وهذا اللقب عند الحفاظ الافريقيين ذو مكانة عالية في حفظ القرآن وإتقانه، فمتى سمعت عن شيخ مقرئ يُقال عنه القوني فاعلم أنه يحفظ القرآن حفظاً لا يكاد يُنسى، ويعرفه تفسيراً ورسماً وضبطا ومن كل الوجوه، وهذا اللقب ( القوني ) يُطلقونه على الحافظ بعد اختباره من شيوخ كبار يكتب القرآن غيباً ويُراجع ما كتبه، فإذا أتقن مكتوبه يتم الاحتفاء به وتتويجه، بعد الانتهاء من الحفل أُخرجنا من القاعة مسرعين إلى مسكننا خشية أن ينهال علينا الزوار والحاضرين، وفي المساء تشرفنا بزيارة حاكم الولاية المعيّن حديثاً واستقبلنا بكل حفاوة وتقدير وتباهج بها أيما ابتهاج جزاه الله خيرا، ولعل قارئ هذه السطور يتوقف عند جملتي أمير الولاية وحاكم الولاية، فهما جملتان لشخصين مختلفين، فحاكم الولاية يُنتخبُ انتخاباً سياسياً من قِبَلِ الشعب والأحزاب السياسية وتكون مدة حكمه أربع سنوات قابلة للتمديد والتجديد، وأما أمير الولاية فهو أمير بالتوارث ويكون وجودهم فخرياً وتشريفياً، انتهت رحلتنا لهذه التجربة الرائعة ونعجز عن الشكر لأهالينا الفُلّان من أهل أدماوا حيث وضعونا على كفوف الراحة وخدمونا بأنفسهم وأموالهم فرضي الله عنهم ورفع قدرهم في عليين والحمد لله رب العالمين.