الصداقة بين الشخصين كعقد اللؤلؤ الناصع تُحافظ على بريق لمعانها وجودة ظهورها وديمومة بقاءها مالم يشوبها شائب من نميمة حاقد وشراسة حاسد، فدائرة الصداقة إذا قويت روابطها تُرى ثمارتها في كل محفلٍ ومظهرٍ، يراها الكل بحسب ما يُكنُّه قلبه تجاه المتصادقين، فمفتقدها إما يتمنى دوامها ويعوضه الله بمثلها وأفضل، وإما يتوقّد في قلبه ناراً ليحرق تلك الصداقة اليانعة مثلما هو أُحرِق بطريقةٍ ما، ولا تزال عالقة في ذهني قصة صداقة في القرن الثامن كان عقدها مُدبّج بديباج الذهب الذي لا يصدأ ولا يتغيّر، ولكن ثمّة واشٍ وشايةَ سُوءٍ قطع عِقد هذه الصداقة وأصابها الألم الضروس، حكى شيخ القراء الإمام الحافظ محمد بن محمد بن محمد بن الجزري في معجم شيوخه جامع الأسانيد عن اثنين من شيوخه حيث قال: وأما شيخنا الإمام العلّامة الأديب النحوي أبو عبدالله محمد بن أحمد بن جابر الهَوّّاري المَريني الأندلسي الضرير، وشيخنا الإمام العالم المقرئ الأستاذ أبو جعفر أحمد بن يوسف بن مالك الرُعَيني الغرناطي، وهذان الشيخان وُلدا سنة ثمانٍ وسبعمئة من الهجرة، فالأول منهما في شهر شوال بالمريَّة والثاني بغرناطة، وخرجا معاً من الأندلس بنية الحج والأخذ من مشايخ الشرق، سنة بضع وثلاثين وسبعمئة من الهجرة، بعد أن حَصّلا القراءات وأحكما العربية وشاركا باقي العلوم، وأحسنا نظم القريض، وكان للأول منهما قريحة جيدة، وفيه سرعة بديهة إلى الغاية، فاصطحبا في الطريق واتحدا في المحبة والصفاءحتى صارا كنفس واحدة، لا يمتاز احدهما عن الآخر بشيء في ملبس ولا مطعم، حتى أن أحدهما إذا لبس ثوباً يلبس الآخر مثله وشكله، ويجلسان معاً للإفادة، فإذا سُئل مثلاً أبو عبدالله عن مسألة يقول: القولُ ما يقول سيدي أبو جعفر، وإذا سُئل أبو جعفر يقول: القولُ ما يقول سيدي أبو عبدالله، ولقد رأيتُ منهما في ذلك مالم أره ولا سمعته، وكان إذا نظم الشيخ أبو عبدالله شيئاً يشرحه أبو جعفر، وأخبراني رحمهما الله أنه لمّا وصلا ديار مصر واجتمعا بالشيخ الإمام أبي حيّان قصدا ملازمته والأخذ عنه، فقال لهما: أنا بعدُ في أجلي فسحة فاذهبا إلى الشام وأدركا الحافظ الكبير جمال الدين المزّي قبل ان يموت فيفوتكما، قالا لي: فخرجنا من مصر ووصلنا دمشق فلازمنا المزّي وأدركنا منه ما ينبغي، ثم انهما سمعا بدمشق من أصحاب ابن عبدالدائم وغيره، وذهبا إلى بعلبك فسمعا الشاطبية من بعض أصحاب الكمال الضرير بالإجازة، وتوجّها إلى مدينة حلب، فأقبل أهلها عليهما وحصل لهما من القبول ما لا مزيد عليه وانتفع بهما اهل تلك الناحية، ورحلوا إليهما من الاطراف، والتمس اهل البيرة < وهي مدينة تقع على نهر الفرات في محافظة أُورفة جنوب شرق تركيا حالياً وتسمى بالتركية الآن بيره > فكانوا يقيمون في البيرة أشهراً، وفي حلب مدة وجعلا عليهما يحجا كل سنتين ويجاورا بالمدينة المنورة سنة، فتوجها إلى الحج سنة تسعٍ وستين وكنت إذ ذاك في مصر في رحلتي الاولى، فأقاما بالمدينة المنورة سنة سبعين، ووردا دمشق أوائل سنة إحدى وسبعين، فلزمتهما مدة إقامتهما، وقرأتُ عليهما كتاب التيسير للداني وحرز الاماني للشاطبي وشيئاً من القرآن العظيم جمعاً، وكثيراً من مصنفاتهما نظماً ونثراً، وقد بلغني وفاتهما في حدود سنة الثمانين وسبعمئة من الهجرة بعد ان وقع الوشاة بينهما فتفرّقا، فرحمهما الله فلقد كانا من محاسن الدهر.
ولقد توفي أبو جعفر الغرناطي في منتصف رمضان سنة 799 هـ وتوفي أبو عبدالله المريني الاندلسي في شهر محرم مطلع سنة 780 هـ وبينهما في الوفاة أربعة أشهر فقط، فلعمري مثل هذه الصداقة حقها الدوام كما بدأت بطيبة قلبين وصفاء روحين وسلامة جسدين، ولكن الوشاية لا تأتي بخير في كل الأحوال، وهي عبرة لتحصين دائرة الصداقة من نواميس الوشاية، حمى الله صداقتنا وإياكم بكل خير وعافية ودمتم بخير.